الحب الإلهي
استطاع مؤلف الكتاب -وهو الشيخ محمد مهدي الآصفي- أن يستخلص مما توافر من أدعية أئمة أهل البيت موضوع كتابه. فعرض فيه لماهية الحب الإلهي؟ كيف ينبغي أن يكون الحب لله تعالى؟ ومتى يحب الله عبده؟ وغير ذلك مما يطرأ من تساؤلات للنفس المؤمنة التوافة لله عز وجل بأسلوب سهل يسير خالٍ من مصطلحات أهل الاختصاص. وبعيد عن لغة الإملال. لذلك فهو مناسب للمقلين في القراءة وقد يزيده تشويقاً ما يرد فيه من القصص والأحاديث المتنوعة والطريفة.
إن أوَّلَ ما قد يلفتك بعد قراءة الكتاب ويُفضي بك للتأمل هو هذه الأدعية المأثورة عن أهل بيت النبي التي تعبر عن الصورة الصحيحة التي يمكن أن نتصورها ونعرفها بلا مغالاة أو مبالغة عن آل البيت كعبادٍ صالحين عرفوا الله حق معرفته، وأحبوه بما يليق بجلاله وعظمته وبما يجعلهم أشد حباً لله. الحب الخالص، كالدين الخالص، بلا ند ولا شريك.
في حديثه عن استغفار الأولياء مثلاً كتب المؤلف يقول:
يستغفر الإمام علي بن الحسين من كل لذة غير لذة حب الله ومن كل شغل غير الاشتغال بذكر الله ومن كل سرور بغير قرب الله. لا لأن الله تعالى حرّم على عباده ذلك ولكن لأن ذلك من انصراف القلب عن الله واشتغاله بغير الله ولو لزمنٍ قصير. وكل شيء وكل جهد في حياة أولياء الله يأتي في امتداد حب الله وذكره وطاعته. وكل شيء عدا ذلك هو انصراف عن الله يستغفر الله منه.
الجميل في الكتاب أنك تجد للمؤلف بين صفحةٍ وأخرى بعض التأملات واللفتات حول مقاطع من أدعية الأئمة (ع) يستضيءُ بها على فكرته ويأخذك فيها إلى روحانية الدعاء العرفاني الصادق. اقرأ معي هذا المثال (ص 19):
فبعزتك يا سيدي ومولاي أقسم صادقاً، لئن تركتني ناطقاً، لأضجنَّ إليك بين أهلها ضجيج الآملين، ولأصرخّن إليك صراخ المستصرخين، ولأبكيّنّ عليك بكاء الفاقدين، ولأنادينَّك أين كنت يا ولي المؤمنين
– مقطع دعاء كميل
# توحيد الله في الحب
يقول المؤلّف:
لا بُدّ أن يكون الإنسانُ أشدَّ حُبّاً لله من كل أحدٍ ومن كل شيءٍ. فلا ينهى اللهُ عن حُبِّ الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة ما يُعادوا الله ورسولَه. ولا ينهى عن حب المال والتجارة والمساكن ما لم يكن عن حرام. وإنما ينهى أن يكونَ حُبُّ هذه الأمور أقوى وأشد عند المؤمن من حب الله ورسوله وجهادٍ في سبيله.
وانقلب الحديث إلى درس تصوُّفٍ يُلقيه الشيخ ويعلل وفاته كريمته بغيرة الله على قلبه. فإنَّ اللهَ يغارُ على قُلوبِ عبادهِ الصالحين أن تتعلق بغيره أو تنصرفَ إلى سواه. واستشهد بإبراهيم (ع) وقد تعلق قلبه بإسماعيل فأمره أن يذبحه، ويعقوب إذ تعلَّق قلبه بيُوسُفَ فأضاعَه الله منه عدّة سنوات.
في رأيي، القصة حلوة وعجبني فهم الشيخ شلبي لمغزى وفاة وحيدته الله يرحمها. لكن عندي تحفظ على لفظة « يغار » ونسبتها إلى الله. فيُمكن أن نستبدلَها مثلاً بكلمة: « لا يرضى » على قلوب عباده الصالحين أن يكون فيها غيره. لكنَّ استخدامَ كلمةِ الغيرة مع الله سبحانه أجدها غير مناسبة، لأن الغيرة كلمة لصفة نقص سلبية. وسبحان الله وتعالى وحاشاه عن كل نقص.
من اللفتات الحلوة في الكتاب إن العلاقة بالله تعالى في صورتها الصحيحة لازم ما تعتمد فقط على عنصر واحد من الأحاسيس، كالحب فقط أو الخوف فقط أو الرجاء فقط لأنها راح تكون فاقدة لحالة التوازن والتناسق. وإنما يجب أن تكونَ مزيجاً من الحب والخوف والرجاء والتذلل والخشوع والتضرع والتمجيد والرهبة والاسترحام والوجل والشوق والعبودية، إلخ…
# العصبية
يقول المؤلف:
العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين. وليس من العصبية أن يحب الرجل قومَه ولكن من العصبية أن يُعينَ قومَه على الظُّلم.
يقول الإمام زين العابدين (ع): « إلهي اسلك بنا سبل الوصول إليك ». يطلب الإمام زين العابدين (ع) من الله أن يأخذ بيده ويسلك به سبل الوصول إليه. فلا يطلب في هذه الدعاء من الله دنيا ولا آخرة، ولكنه يطلب القرب والوصول والجوار.
# قصة من الكتاب
يقول حسن البنّا:
رزق الله الشيخ شلبي (أحد مشايخ مصر) بنتاً في مرحلةٍ مُتأخرةٍ من عُمرِه. فولع بها الشيخُ ولعاً شديداً وشغف بها حتى كاد لا يُفارقها إلى أن كبرت وكان يزداد حباً لها كلما شبت وكبرت.
ولقد زاره الشيخ البنا مع جمعٍ من أصحابه في بعض الليالي بعد انصرافهم من موكب فرح انطلقوا فيه من دار قرب دار الشيخ شلبي، وبعد عودتهم جلسوا مع الشيخ شلبي ولما أرادوا الانصراف قال لهم الشيخ بابتسامةٍ رقيقة: إن شاء الله تزوروني لندفن « روحية ».
وروحية هذه وحديته التي رُزقها بعد 11 سنة من زواجه. وأسماها روحية لأنها تحتل منه منزلة الروح. يقول البنا:
فاستغربنا وسألنا: ومتى تُوفّيت؟ فقال اليوم قبيل المغرب. وقلنا: ولماذا لم تخبرنا فنخرج من منزل آخر بموكب للتشييع؟! فقال: ومال الذي حدث؟! لقد خففّ عنا الحزن وانقلب المأتم فرحاً، فهل تريدون نعمةً من الله أكبرَ من هذه النعمةِ؟